سورة طه - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (طه)


        


هذا شروع في إنجاء بني إسرائيل وإهلاك عدوّهم، وقد تقدّم في البقرة، وفي الأعراف، وفي يونس واللام في: {لقد} هي الموطئة للقسم، وفي ذلك من التأكيد ما لا يخفى، و{أن} في: {أن أسر بعبادي} إما المفسرة لأن في الوحي معنى القول، أو مصدرية، أي بأن أسر، أي أسر بهم من مصر.
وقد تقدّم هذا مستوفى. {فاضرب لَهُمْ طَرِيقاً فِي البحر يَبَساً} أي اجعل لهم طريقاً، ومعنى {يبساً}: يابساً، وصف به الفاعل مبالغة، وذلك أن الله تعالى أيبس لهم تلك الطريق حتى لم يكن فيها ماء ولا طين. وقرئ: {يبسا} بسكون الباء. على أنه مخفف من يبسا المحرك، أو جمع يابس كصحب في صاحب. وجملة {لاَّ تَخَافُ دَرَكاً} في محل نصب على الحال، أي آمنا من أن يدرككم العدوّ، أو صفة أخرى لطريق، والدرك اللحاق بهم من فرعون وجنوده. وقرأ حمزة: {لا تخف} على أنه جواب الأمر، والتقدير: إن تضرب لا تخف، و{لا تخشى} على هذه القراءة مستأنف، أي ولا أنت تخشى من فرعون أو من البحر. وقرأ الجمهور: {لا تخاف} وهي أرجح لعدم الجزم في: {تخشى} ويجوز أن تكون هذه الجملة على قراءة الجمهور صفة أخرى لطريق، أي لا تخاف منه ولا تخشى منه. {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ} أتبع هنا مطاوع تبع، يقال: أتبعتهم: إذا تبعتهم، وذلك إذا سبقوك فلحقتهم، فالمعنى: تبعهم فرعون ومعه جنوده. وقيل: الباء زائدة والأصل أتبعهم جنوده، أي أمرهم أن يتبعوا موسى وقومه، وقرئ: {فاتبعهم} بالتشديد أي لحقهم بجنوده وهو معهم كما يقال: ركب الأمير بسيفه، أي معه سيفه، ومحل بجنوده النصب على الحال، أي: سائقاً جنوده معه {فَغَشِيَهُمْ مّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ} أي علاهم وأصابهم ما علاهم وأصابهم، والتكرير للتعظيم والتهويل كما في قوله: {الحاقة * مَا الحاقة} [الحاقة: 1 2]. وقيل: غشيهم ما سمعت قصته.
وقال ابن الأنباري: غشيهم البعض الذي غشيهم؛ لأنه لم يغشهم كل ماء البحر، بل الذي غشيهم بعضه. فهذه العبارة للدلالة على أن الذي غرقهم بعض الماء، والأوّل أولى لما يدل عليه من التهويل والتعظيم. وقرئ: {فغشاهم من اليمّ ما غشاهم} أي: غطاهم ما غطاهم.
{وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هدى} أي أضلهم عن الرشد، وما هداهم إلى طريق النجاة، لأنه قدّر أن موسى ومن معه لا يفوتونه لكونهم بين يديه يمشون في طريق يابسة، وبين أيديهم البحر، وفي قوله: {وَمَا هدى} تأكيد لإضلاله؛ لأن المضل قد يرشد من يضله في بعض الأمور.
{هدى يابنى إسراءيل قَدْ أنجيناكم مّنْ عَدُوّكُمْ} ذكر سبحانه ما أنعم به على بني إسرائيل بعد إنجائهم، والتقدير قلنا لهم بعد إنجائهم: {يا بني إسرائيل} ويجوز أن يكون خطاباً لليهود المعاصرين لنبينا صلى الله عليه وسلم؛ لأن النعمة على الآباء معدودة من النعم على الأبناء.
والمراد بعدوّهم هنا: فرعون وجنوده، وذلك بإغراقه وإغراق قومه في البحر بمرأى من بني إسرائيل. {وواعدناكم جَانِبَ الطور الأيمن} انتصاب {جانب} على أنه مفعول به، لا على الظرفية؛ لأنه مكان معين غير مبهم، وإنما تنتصب الأمكنة على الظرفية إذا كانت مبهمة. قال مكي: وهذا أصل لا خلاف فيه. قال النحاس: والمعنى أمرنا موسى أن يأمركم بالخروج معه لنكلمه بحضرتكم فتسمعوا الكلام. وقيل: وعد موسى بعد إغراق فرعون أن يأتي جانب الطور، فالوعد كان لموسى، وإنما خوطبوا به؛ لأن الوعد كان لأجلهم. وقرأ أبو عمرو وأبو جعفر ويعقوب: {ووعدناكم} بغير ألف، واختاره أبو عبيدة؛ لأن الوعد إنما هو من الله لموسى خاصة والمواعدة لا تكون إلا من اثنين، وقد قدّمنا في البقرة هذا المعنى. و{الأيمن} منصوب على أنه صفة للجانب، والمراد: يمين الشخص؛ لأن الجبل ليس له يمين ولا شمال، فإذا قيل: خذ عن يمين الجبل فمعناه: عن يمينك من الجبل. وقرئ بجرّ الأيمن على أنه صفة للمضاف إليه {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى} قد تقدّم تفسير المنّ بالترنجبين والسلوى بالسماني وأوضحنا ذلك بما لا مزيد عليه، وإنزال ذلك عليهم كان في التيه.
{كُلُواْ مِن طيبات مَا رزقناكم} أي وقلنا لهم: كلوا والمراد بالطيبات: المستلذات. وقيل: الحلال، على الخلاف المشهور في ذلك. وقرأ حمزة والكسائي والأعمش: {قد أنجيتكم من عدوّكم ووعدتكم جانب الطور كلوا من طيبات ما رزقتكم} بتاء المتكلم في الثلاثة. وقرأ الباقون بنون العظمة فيها. {وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ} الطغيان: التجاوز، أي لا تتجاوزوا ما هو جائز إلى ما لا يجوز. وقيل: المعنى: لا تجحدوا نعمة الله فتكونوا طاغين. وقيل: لا تكفروا النعمة ولا تنسوا شكرها، وقيل: لا تعصوا المنعم، أي لا تحملنكم السعة والعافية على المعصية، ولا مانع من حمل الطغيان على جميع هذه المعاني، فإن كل واحد منها يصدق عليه أنه طغيان {فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} هذا جواب النهي، أي يلزمكم غضبي وينزل بكم، وهو مأخوذ من حلول الدّين، أي حضور وقت أدائه {وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هوى} قرأ الأعمش ويحيى بن وثاب والكسائي: {فيحل} بضم الحاء، وكذلك قرؤوا {يحلل} بضم اللام الأولى، وقرأ الباقون بالكسر فيهما وهما لغتان. قال الفراء: والكسر أحبّ إليّ من الضم؛ لأن الضم من الحلول بمعنى الوقوع. ويحل بالكسر: يجب، وجاء التفسير بالوجوب لا بالوقوع، وذكر نحو هذا أبو عبيدة وغيره.
ومعنى {فَقَدْ هوى}: فقد هلك. قال الزجاج: {فَقَدْ هوى} أي صار إلى الهاوية، وهي قعر النار من هوى يهوي هوياً، أي سقط من علو إلى سفل، وهوى فلان، أي مات.
{وَإِنّي لَغَفَّارٌ لّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالحا} أي لمن تاب من الذنوب التي أعظمها الشرك بالله، وآمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وعمل عملاً صالحاً مما ندب إليه الشرع وحسنه {ثُمَّ اهتدى} أي استقام على ذلك حتى يموت كذا قال الزجاج وغيره. وقيل: لم يشكّ في إيمانه. وقيل: أقام على السنّة والجماعة، وقيل: تعلم العلم ليهتدي به. وقيل: علم أن لذلك ثواباً وعلى تركه عقاباً، والأوّل أرجح مما بعده.
{وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ ياموسى} هذا حكاية لما جرى بين الله سبحانه وبين موسى عند موافاته الميقات. قال المفسرون: وكانت المواعدة أن يوافي موسى وجماعة من وجوه قومه. فسار موسى بهم، ثم عجل من بينهم شوقاً إلى ربه، فقال الله له: ما أعجلك؟ أي ما الذي حملك على العجلة، حتى تركت قومك وخرجت من بينهم، فأجاب موسى عن ذلك: {قَالَ هُمْ أُوْلاء على أَثَرِي} أي هم بالقرب مني، تابعون لأثرى واصلون بعدي. وقيل: لم يرد أنهم يسيرون خلفه، بل أراد أنهم بالقرب منه ينتظرون عوده إليهم. ثم قال مصرحاً بسبب ما سأله الله عنه فقال: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبّ لترضى} أي لترضى عني بمسارعتي إلى امتثال أمرك أو لتزداد رضا عني بذلك. قال أبو حاتم: قال عيسى بن عمر: بنو تميم يقولون: {أولى} مقصورة، وأهل الحجاز يقولون: {أولاء} ممدودة. وقرأ ابن أبي إسحاق ونصر، ورويس عن يعقوب: {على إثري} بكسر الهمزة وإسكان الثاء، وقرأ الباقون بفتحها وهما لغتان. ومعنى {عجلت إليك}: عجلت إلى الموضع الذي أمرتني بالمصير إليه لترضى عني. يقال: رجل عجل وعجول وعجلان: بين العجلة. والعجلة خلاف البطء.
وجملة: {قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ} مستأنفة جواب سؤال مقدّر، كأنه قيل فماذا قال الله له؟ فقيل: قال: إنا قد فتنا قومك من بعدك، أي ابتليناهم واختبرناهم وألقيناهم في فتنة ومحنة. قال ابن الأنباري: صيرناهم مفتونين أشقياء بعبادة العجل من بعد انطلاقك من بينهم، وهم الذين خلفهم مع هارون {وَأَضَلَّهُمُ السامري} أي دعاهم إلى الضلالة، وكان من قوم يعبدون البقر، فدخل في دين بني إسرائيل في الظاهر وفي قلبه ما فيه من عبادة البقر، وكان من قبيلة تعرف بالسامرة، وقال لمن معه من بني إسرائيل: إنما تخلف موسى عن الميعاد الذي بينكم وبينه لما صار معكم من الحليّ، وهي حرام عليكم وأمرهم بإلقائها في النار، فكان من أمر العجل ما كان.
{فَرَجَعَ موسى إلى قَوْمِهِ غضبان أَسِفاً} قيل: وكان الرجوع إلى قومه بعد ما استوفى أربعين يوماً: ذا القعدة، وعشر ذي الحجة، والأسف: الشديد الغضب.
وقيل: الحزين، وقد مضى في الأعراف بيان هذا مستوفى. {قَالَ يَا قَوْم أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً} الاستفهام للإنكار التوبيخي، والوعد الحسن: وعدهم بالجنة إذا أقاموا على طاعته، ووعدهم أن يسمعهم كلامه في التوراة على لسان موسى ليعملوا بما فيها، فيستحقوا ثواب عملهم، وقيل: وعدهم النصر والظفر. وقيل هو قوله: {وَإِنّى لَغَفَّارٌ لّمَن تَابَ} الآية. {أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ العهد} الفاء للعطف على مقدّر، أي أوعدكم ذلك، فطال عليكم الزمان فنسيتم {أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مّن رَّبّكُمْ} أي يلزمكم وينزل بكم، والغضب: العقوبة والنقمة. والمعنى: أم أردتم أن تفعلوا فعلاً يكون سبب حلول غضب الله عليكم {فَأَخْلَفْتُمْ مَّوْعِدِى} أي: موعدكم إياي، فالمصدر مضاف إلى المفعول؛ لأنهم وعدوه أن يقيموا على طاعة الله عزّ وجلّ إلى أن يرجع إليهم من الطور. وقيل: وعدوه أن يأتوا على أثره إلى الميقات، فتوقفوا فأجابوه، و{قَالُواْ مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ} الذي وعدناك {بِمَلْكِنَا} بفتح الميم، وهي قراءة نافع وأبي جعفر وعاصم وعيسى بن عمر، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بكسر الميم، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم؛ لأنها على اللغة العالية الفصيحة، وهو مصدر ملكت الشيء أملكه ملكاً، والمصدر مضاف إلى الفاعل والمفعول محذوف، أي بملكنا أمورنا، أو بملكنا الصواب، بل أخطأنا ولم نملك أنفسنا وكنا مضطرين إلى الخطأ، وقرأ حمزة والكسائي: {بملكنا} بضمّ الميم، والمعنى بسلطاننا، أي لم يكن لنا ملك فنخلف موعدك. وقيل: إنّ الفتح والكسر والضم في: {بملكنا} كلها لغات في مصدر ملكت الشيء.
{ولكنا حُمّلْنَا أَوْزَاراً مّن زِينَةِ القوم} قرأ نافع وابن كثير وابن عامر وحفص وأبو جعفر ورويسك: {حملنا} بضم الحاء وتشديد الميم، وقرأ الباقون بفتح الحاء والميم مخففة، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم؛ لأنهم حملوا حلية القوم معهم باختيارهم، وما حملوها كرهاً، فإنهم كانوا استعاروها منهم حين أرادوا الخروج مع موسى، وأوهموهم أنهم يجتمعون في عيد لهم أو وليمة. وقيل: هو ما أخذوه من آل فرعون لما قذفهم البحر إلى الساحل، وسميت أوزاراً، أي آثاماً؛ لأنه لا يحلّ لهم أخذها، ولا تحل لهم الغنائم في شريعتهم والأوزار في الأصل: الأثقال، كما صرح به أهل اللغة، والمراد بالزينة هنا: الحليّ {فَقَذَفْنَاهَا} أي: طرحناها في النار طلباً للخلاص من إثمها. وقيل: المعنى طرحناها إلى السامريّ لتبقى لديه حتى يرجع موسى فيرى فيها رأيه {فَكَذَلِكَ أَلْقَى السامري} أي فمثل ذلك القذف ألقاها السامريّ. قيل: إن السامريّ قال لهم حين استبطأ القوم رجوع موسى: إنما احتبس عنكم لأجل ما عندكم من الحليّ، فجمعوه ودفعوه إليه، فرمى به في النار وصاغ لهم منه عجلاً، ثم ألقى عليه قبضة من أثر الرسول وهو جبريل، فصار {عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ} أي يخور كما يخور الحيّ من العجول، والخوار: صوت البقر.
وقيل: خواره كان بالريح؛ لأنه كان عمل فيه خروقاً. فإذا دخلت الريح في جوفه خار ولم يكن فيه حياة {فَقَالُواْ هذا إلهكم وإله موسى} أي قال السامريّ ومن وافقه هذه المقالة {فَنَسِيَ} أي فضلّ موسى ولم يعلم مكان إلهه هذا، وذهب يطلبه في الطور. وقيل: المعنى: فنسي موسى أن يذكر لكم أن هذا إلهه وإلهكم. وقيل: الناسي هو السامريّ، أي ترك السامريّ ما أمر به موسى من الإيمان وضلّ، كذا قال ابن الأعرابي.
{أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً} أي أفلا يعتبرون ويتفكرون في أن هذا العجل لا يرجع إليهم قولاً، أي لا يردّ عليهم جواباً، ولا يكلمهم إذا كلموه، فكيف يتوهمون أنه إله وهو عاجز عن المكالمة، فأن في: {ألا يرجع} هي المخففة من الثقيلة، وفيها ضمير مقدّر يرجع إلى العجل، ولهذا ارتفع الفعل بعدها، ومنه قول الشاعر:
في فتية من سيوف الهند قد علموا *** أن هالك كل من يَحْفَى ويَنْتَعِلُ
أي أنه هالك. وقرئ بنصب الفعل على أنها الناصبة، وجملة: {وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً} معطوفة على جملة: {لا يرجع} أي أفلا يرون أنه لا يقدر على أن يدفع عنهم ضرّاً ولا يجلب إليهم نفعاً.
{وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هارون مِن قَبْلُ} اللام هي الموطئة للقسم، والجملة مؤكدة لما تضمنته الجملة التي قبلها من الإنكار عليهم والتوبيخ، لهم أي ولقد قال لهم هارون من قبل أن يأتي موسى ويرجع إليهم {ياقوم إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ} أي وقعتم في الفتنة بسبب العجل، وابتليتم به وضللتم عن طريق الحق لأجله. قيل: ومعنى القصر المستفاد من إنما هو: أن العجل صار سبباً لفتنتهم لا لرشادهم وليس معناه: أنهم فتنوا بالعجل لا بغيره {وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرحمن فاتبعوني وَأَطِيعُواْ أَمْرِي} أي ربكم الرحمن لا العجل، فاتبعوني في أمري لكم بعبادة الله، ولا تتبعوا السامريّ في أمره لكم بعبادة العجل، وأطيعوا أمري لا أمره.
{قَالُواْ لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عاكفين حتى يَرْجِعَ إِلَيْنَا موسى} أجابوا هارون عن قوله المتقدّم بهذا الجواب المتضمن لعصيانه، وعدم قبول ما دعاهم إليه من الخير وحذرهم عنه من الشرّ، أي لن نزال مقيمين على عبادة هذا العجل، حتى يرجع إلينا موسى، فينظر: هل يقرّرنا على عبادته أو ينهانا عنها؟ فعند ذلك اعتزلهم هارون في اثني عشر ألفاً من المنكرين لما فعله السامريّ.
وقد أخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب في قوله: {يَبَساً} قال: يابساً ليس فيه ماء ولا طين.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد نحوه.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس {لاَ تخاف دَرَكاً} من آل فرعون {وَلاَ تخشى} من البحر غرقاً.
وأخرجا عنه أيضاً في قوله: {فَقَدْ هوى} شقي.
وأخرجا عنه أيضاً: {وَإِنّي لَغَفَّارٌ لّمَن تَابَ} قال: من الشرك {وَآمَنَ} قال: وحد الله {وَعَمِلَ صالحا} قال: أدّى الفرائض {ثُمَّ اهتدى} قال: لم يشك.
وأخرج سعيد بن منصور والفريابي عنه أيضاً: {وَإِنّي لَغَفَّارٌ لّمَن تَابَ} قال: من تاب من الذنب، وآمن من الشرك، وعمل صالحاً فيما بينه وبين ربه {ثُمَّ اهتدى} علم أن لعمله ثواباً يجزى عليه.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير: {ثُمَّ اهتدى} قال: ثم استقام، لزم السنّة والجماعة.
وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة، والبيهقي في الشعب من طريق عمرو بن ميمون عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: تعجل موسى إلى ربه، فقال الله: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ ياموسى} الآية، قال: فرأى في ظلّ العرش رجلاً فعجب له، فقال: من هذا يا ربّ؟ قال: لا أحدثك من هو، لكن سأخبرك بثلاث فيه: كان لا يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله، ولا يعقّ والديه، ولا يمشي بالنميمة.
وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه عن عليّ قال: لما تعجل موسى إلى ربه عمد السامريّ فجمع ما قدر عليه من حليّ بني إسرائيل فضربه عجلاً، ثم ألقى القبضة في جوفه فإذا هو عجل جسد له خوار، فقال لهم السامريّ: {هذا إلهكم وإله موسى}، فقال لهم هارون: {يا قوم ألم يعدكم ربكم وعداً حسناً} فلما أن رجع موسى أخذ برأس أخيه، فقال له هارون ما قال، فقال موسى للسامريّ: ما خطبك؟ قال: {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرسول فَنَبَذْتُهَا وكذلك سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي} فعمد موسى إلى العجل، فوضع موسى عليه المبارد فبرده بها وهو على شط نهر فما شرب أحد من ذلك الماء ممن كان يعبد ذلك العجل إلا اصفرّ وجهه مثل الذهب، فقالوا لموسى: ما توبتنا؟ قال: يقتل بعضكم بعضاً، فأخذوا السكاكين فجعل الرجل يقتل أخاه وأباه وابنه ولا يبالي بمن قتل حتى قتل منهم سبعون ألفاً، فأوحى الله إلى موسى مرهم فليرفعوا أيديهم، فقد غفرت لمن قتل وتبت على من بقي. والحكايات لهذه القصة كثيرة جدّاً.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {بِمَلْكِنَا} قال: بأمرنا.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة: {بِمَلْكِنَا} قال: بطاقتنا.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السديّ مثله.
وأخرج أيضاً عن الحسن قال: بسلطاننا.
وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {هذا إلهكم وإله موسى فَنَسِيَ} قال: فنسي موسى أن يذكر لكم أن هذا إلهه.


جملة: {قَالَ يَا هارون} مستأنفة جواب سؤال مقدّر، والمعنى: أن موسى لما وصل إليهم أخذ بشعور رأس أخيه هارون وبلحيته وقال: {مَا مَنَعَكَ} من اتباعي واللحوق بي عند أن وقعوا في هذه الضلالة ودخلوا في الفتنة. وقيل: معنى {مَا مَنَعَكَ} {ألا تتبعن}: ما منعك من اتباعي في الإنكار عليهم. وقيل: معناه هلا قاتلتهم إذ قد علمت أني لو كنت بينهم لقاتلتهم. وقيل: معناه: هلا فارقتهم. و{لا} في {ألا تتبعن} زائدة، وهو في محل نصب على أنه مفعول ثانٍ لمنع، أي أيّ شيء منعك حين رؤيتك لضلالهم من اتباعي، والاستفهام في: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} للإنكار والتوبيخ، والفاء للعطف على مقدّر كنظائره، والمعنى: كيف خالفت أمري لك بالقيام لله ومنابذة من خالف دينه وأقمت بين هؤلاء الذين اتخذوا العجل إلها؟ وقيل: المراد بقوله: {أمري} هو قوله الذي حكى الله عنه: {وَقَالَ موسى لأخِيهِ هارون اخلفنى فِى قَوْمِى وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ المفسدين} [الأعراف: 142] فلما أقام معهم ولم يبالغ في الإنكار عليهم نسبه إلى عصيانه.
{قَالَ يَا ابن أُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي} قرئ بالفتح والكسر للميم، وقد تقدّم الكلام على هذا في سورة الأعراف. ونسبه إلى الأمّ مع كونه أخاه لأبيه وأمه، عند الجمهور؛ استعطافاً له وترقيقاً لقلبه، ومعنى {وَلاَ بِرَأْسِي}: ولا بشعر رأسي، أي لا تفعل هذا بي عقوبة منك لي، فإن لي عذراً هو {إِنّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِى إِسْرءيلَ} أي خشيت إن خرجت عنهم وتركتهم أن يتفرقوا فتقول: إني فرقت جماعتهم وذلك لأن هارون لو خرج لتبعه جماعة منهم وتخلف مع السامريّ عند العجل آخرون، وربما أفضى ذلك إلى القتال بينهم، ومعنى {وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي}: ولم تعمل بوصيتي لك فيهم، إني خشيت أن تقول: فرّقت بينهم، وتقول لم تعمل بوصيتي لك فيهم وتحفظها، ومراده بوصية موسى له هو قوله: {اخلفنى فِى قَوْمِى وَأَصْلِحْ} [الأعراف: 142]. قال أبو عبيد: معنى {وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي}: ولم تنتظر عهدي وقدومي لأنك أمرتني أن أكون معهم، فاعتذر هارون إلى موسى ها هنا بهذا، واعتذر إليه في الأعراف بما حكاه الله عنه هنالك حيث قال: {إِنَّ القوم استضعفونى وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِى} [الأعراف: 150]. ثم ترك موسى الكلام مع أخيه وخاطب السامريّ فقَال: {فَمَا خَطْبُكَ ياسامري} أي ما شأنك وما الذي حملك على ما صنعت {قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ} أي قال السامريّ مجيباً على موسى: رأيت ما لم يروا أو علمت بما لم يعلموا وفطنت لما لم يفطنوا له، وأراد بذلك: أنه رأى جبريل على فرس الحياة فألقى في ذهنه أن يقبض قبضة من أثر الرسول، وأن ذلك الأثر لا يقع على جماد إلا صار حياً.
وقرأ حمزة والكسائي والأعمش وخلف: {ما لم تبصروا به} بالمثناة من فوق على الخطاب، وقرأ الباقون بالتحتية، وهي أولى؛ لأنه يبعد كلّ البعد أن يخاطب موسى بذلك ويدّعي لنفسه أنه علم ما لم يعلم به موسى، وقرئ بضم الصاد فيهما وبكسرها في الأوّل وفتحها في الثاني، وقرأ أبيّ بن كعب وابن مسعود والحسن وقتادة: {فقبضت قبصة} بالصاد المهملة فيهما، وقرأ الباقون بالضاد المعجمة فيهما، والفرق بينهما أن القبض بالمعجمة: هو الأخذ بجميع الكف، وبالمهملة بأطراف الأصابع. والقبضة بضم القاف: القدر المقبوض. قال الجوهري: هي ما قبضت عليه من شيء، قال: وربما جاء بالفتح، وقد قرئ: {قبضة} بضم القاف وفتحها، ومعنى الفتح: المرّة من القبض، ثم أطلقت على المقبوض وهو معنى القبضة بضم القاف، ومعنى {مِّنْ أَثَرِ الرسول}: من المحل الذي وقع عليه حافر فرس جبريل، ومعنى {فَنَبَذْتُهَا}: فطرحتها في الحليّ المذابة المسبوكة على صورة العجل {وكذلك سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي} قال الأخفش: أي زينت، أي ومثل ذلك التسويل: سوّلت لي نفسي. وقيل: معنى {سوّلت لي نفسي}: حدّثتني نفسي.
فلما سمع موسى منه قال: {فاذهب فَإِنَّ لَكَ فِى الحياة أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ} أي: فاذهب من بيننا واخرج عنا فإن لك في الحياة، أي ما دمت حياً، وطول حياتك أن تقول: لا مساس. المساس مأخوذ من المماسة، أي لا يمسك أحد ولا تمسّ أحداً، لكن لا بحسب الاختيار منك، بل بموجب الاضطرار الملجئ إلى ذلك؛ لأن الله سبحانه أمر موسى أن ينفي السامريّ عن قومه، وأمر بني إسرائيل أن لا يخالطوه ولا يقربوه ولا يكلموه عقوبة له. قيل: إنه لما قال له موسى ذلك هرب، فجعل يهيم في البرية مع السباع والوحش لا يجد أحداً من الناس يمسه، حتى صار كمن يقول: لا مساس، لبعده عن الناس وبعد الناس عنه، كما قال الشاعر:
حمال رايات بها قناعسا *** حتى تقول الأزد لا مسايسا
قال سيبويه: وهو مبني على الكسر. قال الزجاج: كسرت السين؛ لأن الكسرة من علامة التأنيث. قال الجوهري في الصحاح: وأما قول العرب: لا مساس، مثل قطام، فإنما بني على الكسر؛ لأنه معدول عن المصدر، وهو المس. قال النحاس: وسمعت عليّ بن سليمان يقول: سمعت محمد بن يزيد المبرد يقول: إذا اعتلّ الشيء من ثلاث جهات وجب أن يبنى، وإذا اعتل من جهتين وجب ألا ينصرف، لأنه ليس بعد الصرف إلا البناء، فمساس، دراك اعتل من ثلاث جهات: منها أنه معدول، ومنها أنه مؤنث، ومنها أنه معرفة، فلما وجب البناء فيه وكانت الألف قبل السين ساكنة كسرت السين لالتقاء الساكنين.
وقد رأيت أبا إسحاق، يعني الزجاج، ذهب إلى أن هذا القول خطأ وألزم أبا العباس إذا سميت امرأة بفرعون أن يبنيه وهذا لا يقوله أحد.
وقد قرأ بفتح الميم أبو حيوة والباقون بكسرها. وحاصل ما قيل في معنى {لا مساس} ثلاثة أوجه: الأوّل: أنه حرّم عليه مماسة الناس، وكان إذا ماسه أحد حمّ الماس والممسوس، فلذلك كان يصيح إذا رأى أحداً: لا مساس. والثاني: أن المراد منع الناس من مخالطته؛ واعترض بأن الرجل إذا صار مهجوراً فلا يقول هو: لا مساس، وإنما يقال له.
وأجيب بأن المراد الحكاية، أي أجعلك يا سامريّ بحيث إذا أخبرت عن حالك قلت: لا مساس. والقول الثالث: أن المراد انقطاع نسله، وأن يخبر بأنه لا يتمكن من مماسة المرأة، قاله أبو مسلم وهو ضعيف جداً.
ثم ذكر حاله في الآخرة فقال: {وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَّن تُخْلَفَهُ} أي لن يخلفك الله ذلك الموعد، وهو يوم القيامة، والموعد مصدر، أي إن لك وعداً لعذابك، وهو كائن لا محالة، قال الزجاج: أي يكافئك الله على ما فعلت في القيامة والله لا يخلف الميعاد. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وابن محيصن واليزيدي والحسن: {لن تخلفه} بكسر اللام، وله على هذه القراءة معنيان: أحدهما: ستأتيه ولن تجده مخلفاً كما تقول أحمدته، أي وجدته محموداً. والثاني: على التهديد، أي لا بدّ لك من أن تصير إليه. وقرأ ابن مسعود: {لن نخلفه} بالنون، أي لن يخلفه الله. وقرأ الباقون بفتح اللام، وبالفوقية مبنياً للمفعول، معناه ما قدّمناه.
{وانظر إلى إلهك الذى ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً} ظلت أصله: ظللت فحذفت اللام الأولى تخفيفاً، والعرب تفعل ذلك كثيراً. وقرأ الأعمش بلامين على الأصل. وفي قراءة ابن مسعود: {ظلت} بكسر الظاء. والمعنى: انظر إلى إلهك الذي دمت وأقمت على عبادته، والعاكف: الملازم. {لَّنُحَرّقَنَّهُ} قرأ الجمهور بضم النون وتشديد الراء من حرّقه يحرّقه. وقرأ الحسن بضم النون وسكون الحاء وتخفيف الراء من أحرقه يحرقه. وقرأ عليّ وابن عباس وأبو جعفر وابن محيصن وأشهب والعقيلي: {لنحرقنه} بفتح النون وضم الراء مخففة، من حرقت الشيء أحرقه حرقاً: إذا بردته وحككت بعضه ببعض أي: لنبردنه بالمبارد، ويقال للمبرد: المحرق. والقراءة الأولى أولى، ومعناها: الإحراق بالنار، وكذا معنى القراءة الثانية، وقد جمع بين هذه الثلاث القراءات بأنه أحرق، ثم برد بالمبرد، وفي قراءة ابن مسعود: {لنذبحنه ثم لنحرقنه} واللام هي الموطئة للقسم. {ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِى اليم نَسْفاً} النسف: نفض الشيء ليذهب به الريح. قرأ أبو رجاء: {لننسفنه} بضم السين، وقرأ الباقون بكسرها، وهما لغتان. والمنسف: ما ينسف به الطعام، وهو شيء منصوب الصدر أعلاه مرتفع، والنسافة: ما يسقط منه.
{إِنَّمَا إلهكم الله الذي لا إله إِلاَّ هُوَ} لا هذا العجل الذي فتنتم به السامريّ {وَسِعَ كُلَّ شَيْء عِلْماً} قرأ الجمهور: {وسع} بكسر السين مخففة. وهو متعدّ إلى مفعول واحد، وهو {كل شيء}. وانتصاب {علماً} على التمييز المحوّل عن الفاعل، أي وسع علمه كل شيء. وقرأ مجاهد وقتادة: {وسع} بتشديد السين وفتحها فيتعدى إلى مفعولين، ويكون انتصاب {علماً} على أنه المفعول الأوّل وإن كان متأخراً؛ لأنه في الأصل فاعل، والتقدير: وسع علمه كل شيء، وقد مرّ نحو هذا في الأعراف.
{كذلك نَقُصُّ عَلَيْكَ} الكاف في محل نصب على أنها نعت لمصدر محذوف، أي كما قصصنا عليك خبر موسى كذلك نقصّ عليك {مِنْ أَنْبَاء مَا قَدْ سَبَقَ} أي من أخبار الحوادث الماضية في الأمم الخالية لتكون تسلية لك ودلالة على صدقك، و{من} للتبعيض، أي بعض أخبار ذلك {وَقَدْ آتيناك مِن لَّدُنَّا ذِكْراً} المراد بالذكر: القرآن، وسمي ذكراً؛ لما فيه من الموجبات للتذكر والاعتبار. وقيل: المراد بالذكر: الشرف كقوله: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44].
ثم توعد سبحانه المعرضين على هذا الذكر فقال: {مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ القيامة وِزْراً} أي أعرض عنه فلم يؤمن به ولا عمل بما فيه وقيل: أعرض عن الله سبحانه، فإن المعرض عنه يحمل يوم القيامة وزراً، أي إثماً عظيماً وعقوبة ثقيلة بسبب إعراضه {خالدين فِيهِ} في الوزر، والمعنى: أنهم يقيمون في جزائه. وانتصاب: {خالدين} على الحال {وَسَاء لَهُمْ يَوْمَ القيامة حِمْلاً} أي بئس الحمل يوم القيامة، والمخصوص بالذمّ محذوف، أي ساء لهم حملاً وزرهم، واللام للبيان، كما في: {هيت لك} [يوسف: 23].
وقد أخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله: {ياهارون مَا مَنَعَكَ} إلى قوله: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} قال: أمره موسى أن يصلح ولا يتبع سبيل المفسدين، فكان من إصلاحه أن ينكر العجل.
وأخرج عنه أيضاً في قوله: {وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِى} قال: لم تنتظر قولي ما أنا صانع، وقال ابن عباس: {لم ترقب}: لم تحفظ قولي.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {فَإِنَّ لَكَ فِي الحياة أن تقول مساس} قال: عقوبة له {وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَّن تُخْلَفَهُ} قال: لن تغيب عنه.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وانظر إلى إلهك الذى ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً} قال: أقمت {لَّنُحَرّقَنَّهُ} قال: بالنار {ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي اليم} قال: لنذرينه في البحر.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه كان يقرأ: {لَّنُحَرّقَنَّهُ} خفيفة، ويقول: إن الذهب والفضة لا تحرق بالنار، بل تسحل بالمبرد ثم تلقى على النار فتصير رماداً.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال: {اليم}: البحر.
وأخرج أيضاً عن عليّ قال: {اليم} النهر.
وأخرج أيضاً عن قتادة في قوله: {وَسِعَ كُلَّ شَئ عِلْماً} قال: ملأ.
وأخرج أيضاً عن ابن زيد في قوله: {مِن لَّدُنَّا ذِكْراً} قال: القرآن.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد: {وِزْراً} قال: إثماً.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وَسَاء لَهُمْ يَوْمَ القيامة حِمْلاً} يقول: بئس ما حملوا.


الظرف وهو: {يَوْمَ يُنفَخُ} متعلق بمقدّر هو اذكر. وقيل: هو بدل من يوم القيامة، والأوّل أولى. قرأ الجمهور: {ينفخ} بضم الياء التحتية مبنياً للمفعول، وقرأ أبو عمرو وابن أبي إسحاق بالنون مبنياً للفاعل، واستدلّ أبو عمرو على قراءته هذه بقوله: {ونحشر} فإنه بالنون، وقرأ ابن هرمز: {ينفخ} بالتحتية مبنياً للفاعل على أن الفاعل هو الله سبحانه أو إسرافيل، وقرأ أبو عياض: {في الصور} بفتح الواو جمع صورة، وقرأ الباقون بسكون الواو. وقرأ طلحة بن مصرف والحسن: {يُحْشَرُ} بالياء التحتية مبنياً للمفعول ورفع {المجرمين} وهو خلاف رسم المصحف، وقرأ الباقون بالنون.
وقد سبق تفسير هذا في الأنعام. والمراد بالمجرمين: المشركون والعصاة المأخوذون بذنوبهم التي لم يغفرها الله لهم، والمراد ب {يَوْمَئِذٍ}: يوم النفخ في الصور. وانتصاب {زرقاً} على الحال من المجرمين، أي زرق العيون، والزرقة الخضرة في العين كعين السنور والعرب تتشاءم بزرقة العين، وقال الفراء: {زرقاً} أي عميا.
وقال الأزهري: عطاشاً، وهو قول الزجاج، لأن سواد العين يتغير بالعطش إلى الزرقة. وقيل: إنه كني بقوله: {زرقاً} عن الطمع الكاذب إذا تعقبته الخيبة. وقيل: هو كناية عن شخوص البصر من شدّة الخوف، ومنه قول الشاعر:
لقد زرقت عيناك يا بن معكبر *** كما كل ضبي من اللؤم أزرق
والقول الأوّل أولى، والجمع بين هذه الآية وبين قوله: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمّا} [الإسراء: 97].
ما قيل من أن ليوم القيامة حالات ومواطن تختلف فيها صفاتهم ويتنوع عندها عذابهم، وجملة {يتخافتون بَيْنَهُمْ} في محل نصب على الحال، أو مستأنفة لبيان ما هم فيه في ذلك اليوم، والخفت في اللغة السكون، ثم قيل لمن خفض صوته: خفته. والمعنى يتساررون، أي يقول بعضهم لبعض سرّاً: {إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً} أي ما لبثتم في الدنيا إلا عشر ليالِ. وقيل: في القبور. وقيل: بين النفختين، والمعنى: أنهم يستقصرون مدة مقامهم في الدنيا، أو في القبور، أو بين النفختين لشدّة ما يرون من أهوال القيامة. وقيل: المراد بالعشر: عشر ساعات. ثم لما قالوا هذا القول قال الله سبحانه: {نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً} أي أعدلهم قولاً وأكملهم رأياً وأعلمهم عند نفسه: {إن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً} أي ما لبثتم إلا يوماً واحداً، ونسبة هذا القول إلى أمثلهم؛ لكونه أدلّ على شدّة الهول، لا لكونه أقرب إلى الصدق.
{وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الجبال} أي عن حال الجبال يوم القيامة، وقد كانوا سألوا النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأمره الله سبحانه أن يجيب عنهم فقال: {فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبّي نَسْفاً} قال ابن الأعرابي وغيره: يقلعها قلعاً من أصولها، ثم يصيرها رملاً يسيل سيلاً، ثم يصيرها كالصوف المنفوش تطيرها الرياح هكذا وهكذا، ثم كالهباء المنثور.
والفاء في قوله: {فَقُلْ} جواب شرط مقدّر، والتقدير: إن سألوك فقل، أو للمسارعة إلى إلزام السائلين. والضمير في قوله: {فَيَذَرُهَا} راجع إلى الجبال باعتبار مواضعها، أي فيذر مواضعها بعد نسف ما كان عليها من الجبال {قَاعاً صَفْصَفاً} قال ابن الأعرابي: القاع الصفصف: الأرض الملساء بلا نبات ولا بناء، وقال الفراء: القاع: مستنقع الماء، والصفصف: القرعاء الملساء التي لا نبات فيها.
وقال الجوهري: القاع: المستوي من الأرض، والجمع أقوع وأقواع وقيعان. والظاهر من لغة العرب أن القاع: الموضع المنكشف، والصفصف: المستويّ الأملس، وأنشد سيبويه:
وكم دون بيتك من صفصف *** ودكداك رمل وأعقادها
وانتصاب: {قاعاً} على أنه مفعول ثانٍ ليذر على تضمينه معنى التصيير، أو على الحال والصفصف صفة له. ومحل: {لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً} النصب على أنه صفة ثانية ل {قاعاً}، والضمير راجع إلى الجبال بذلك الاعتبار. والعوج بكسر العين: التعوّج، قاله ابن الأعرابي. والأمت: التلال الصغار. والأمت في اللغة: المكان المرتفع. وقيل: العوج: الميل، والأمت: الأثر مثل الشراك. وقيل: العوج: الوادي، والأمت: الرابية. وقيل: هما الارتفاع. وقيل: العوج: الصدوع، والأمت: الأكمة. وقيل: الأمت: الشقوق في الأرض. وقيل: الأمت: أن يغلظ في مكان ويدق في مكان. ووصف مواضع الجبال بالعوج بكسر العين ها هنا يدفع ما يقال: إن العوج بكسر العين في المعاني وبفتحها في الأعيان، وقد تكلف لذلك صاحب الكشاف في هذا الموضع بما عنه غني، وفي غيره سعة.
{يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الداعى لاَ عِوَجَ لَهُ} أي يوم نسف الجبال يتبع الناس داعي الله إلى المحشر.
وقال الفراء: يعني صوت الحشر، وقيل: الداعي هو إسرافيل إذا نفخ في الصور لا عوج له، أي لا معدل لهم عن دعائه فلا يقدرون على أن يزيغوا عنه، أو ينحرفوا منه بل يسرعون إليه كذا قال أكثر المفسرين. وقيل لا عوج لدعائه {وَخَشَعَتِ الأصوات للرحمن} أي خضعت لهيبته، وقيل: ذلت. وقيل: سكتت، ومنه قول الشاعر:
لما أتى خبر الزبير تواضعت *** سور المدينة والجبال الخشع
{فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً} الهمس: الصوت الخفي. قال أكثر المفسرين: هو صوت نقل الأقدام إلى المحشر، ومنه قول الشاعر:
وهنّ يمشين بنا هميسا ***
يعني صوت أخفاف الإبل.
وقال رؤبة يصف نفسه:
ليث يدق الأسد الهموسا *** ولا يهاب الفيل والجاموسا
يقال للأسد: الهموس؛ لأنه يهمس في الظلمة، أي يطأ وطئاً خفياً. والظاهر أن المراد هنا: كل صوت خفيّ سواء كان بالقدم، أو من الفم، أو غير ذلك، ويؤيده قراءة أبيّ بن كعب: {فلا ينطقون إلا همساً}.
{يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشفاعة} أي يوم يقع ما ذكر لا تنفع الشفاعة من شافع كائناً من كان {إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن} أي إلا شفاعة من أذن له الرحمن أن يشفع له {وَرَضِىَ لَهُ قَوْلاً} أي: رضي قوله في الشفاعة أو رضي لأجله قول الشافع. والمعنى: إنما تنفع الشفاعة لمن أذن له الرحمن في أن يشفع له، وكان له قول يرضى، ومثل هذه الآية قوله: {لا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى} [الأنبياء: 28]، وقوله: {لاَّ يَمْلِكُونَ الشفاعة إِلاَّ مَنِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً} [مريم: 87]، وقوله: {فَمَا تَنفَعُهُمْ شفاعة الشافعين} [المدثر: 48].
{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} أي ما بين أيديهم من أمر الساعة، وما خلفهم من أمر الدنيا، والمراد هنا: جميع الخلق. وقيل: المراد بهم: الذين يتبعون الداعي، وقال ابن جرير: الضمير يرجع إلى الملائكة، أعلم الله من يعبدها أنها لا تعلم ما بين أيديها وما خلفها {وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} أي بالله سبحانه، لا تحيط علومهم بذاته، ولا بصفاته، ولا بمعلوماته. وقيل: الضمير راجع إلى ما في الموضعين فإنهم لا يعلمون جميع ذلك {وَعَنَتِ الوجوه لِلْحَيّ القيوم} أي ذلت وخضعت، قاله ابن الأعرابي. قال الزجاج: معنى عنت في اللغة: خضعت، يقال: عنى يعنو عنواً إذا خضع، ومنه قيل للأسير: عان، ومنه قول أمية بن أبي الصلت:
مليك على عرش السماء مهيمن *** لعزته تعنو الوجوه وتسجد
وقيل: هو من العناء، بمعنى التعب {وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً} أي خسر من حمل شيئاً من الظلم. وقيل: هو الشرك. {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات} أي الأعمال الصالحة {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} بالله؛ لأن العمل لا يقبل من غير إيمان، بل هو شرط في القبول {فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً} يصاب به من نقص ثواب في الآخرة {وَلاَ هَضْماً} الهضم: النقص والكسر، يقال: هضمت لك من حقي، أي حططته وتركته. وهذا يهضم الطعام، أي: ينقص ثقله. وامرأة هضيم الكشح، أي ضامرة البطن. وقرأ ابن كثير ومجاهد: {لا يخف} بالجزم جواباً لقوله: {ومن يعمل من الصالحات} وقرأ الباقون: {يخاف} على الخبر.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن رجلاً أتاه، فقال: رأيت قوله: {وَنَحْشُرُ المجرمين يَوْمِئِذٍ زُرْقاً} وأخرى عمياً قال: إن يوم القيامة فيه حالات يكونون في حال زرقاً، وفي حال عمياً.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله: {يتخافتون بَيْنَهُمْ} قال: يتساررون.
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: {أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً} قال: أوفاهم عقلاً، وفي لفظ قال: أعلمهم في نفسه.
وأخرج ابن المنذر وابن جريج قال: قالت قريش: كيف يفعل ربك بهذه الجبال يوم القيامة؟ فنزلت: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الجبال} الآية.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً} قال: لا نبات فيه {لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً} قال: وادياً {وَلا أَمْتاً} قال: رابية.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة أنه سئل عن قوله: {قَاعاً صَفْصَفاً * لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً} قال: كان ابن عباس يقول: هي الأرض الملساء التي ليس فيها رابية مرتفعة ولا انخفاض.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس {عِوَجَا} قال: ميلاً {وَلا أَمْتاً} قال: الأمت: الأثر مثل الشراك.
وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي قال: يحشر الناس يوم القيامة في ظلمة تطوي السماء وتتناثر النجوم، وتذهب الشمس والقمر، وينادي منادٍ فيتبع الناس الصوت يؤمونه. فذلك قول الله: {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الداعي لاَ عِوَجَ لَهُ}.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي صالح في الآية: قال لا عوج عنه.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وَخَشَعَتِ الأصوات} قال: سكتت {فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً} قال: الصوت الخفيّ.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله: {إِلاَّ هَمْساً} قال: صوت وطء الأقدام.
وأخرج عبد بن حميد عن الضحاك وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن مثله.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد قال: الصوت الخفيّ.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: سر الحديث وصوت الأقدام.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس: {وَعَنَتِ الوجوه} قال: ذلت.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة مثله.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: خشعت.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية قال: خضعت.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: {وَعَنَتِ الوجوه}: الركوع والسجود.
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج: {وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً} قال: شركاً.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة: {وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً} قال: شركاً {فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً} قال: ظلماً أن يزاد في سيئاته {وَلاَ هَضْماً} قال: ينقص من حسناته.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال: لا يخاف أن يظلم في سيئاته، ولا يهضم في حسناته.
وأخرج الفريابي وعبد ابن حميد وابن أبي حاتم عنه {وَلاَ هَضْماً} قال: غصباً.

1 | 2 | 3 | 4